حق الله الذي رباك بالنعم وأنت في بطن أمك في ظلمات ثلاث لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يوصل إليك غذاءك ومقومات نموك وحياتك ، أدر لك الثديين ، وهداك النجدين ، وسخر لك الأبوين ، أمدك وأعدك .. أمدك بالنعم والعقل والفهم ، وأعدك لقبول ذلك والانتفاع به
( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78)
فلو حجب عنك فضله طرفة عين لهلكت ، ولو منعك رحمته لما عشت ، فإذا كان هذا فضل الله عليك ورحمته بك فإن حقه عليك أعظم الحقوق ، لأنه حق إيجادك وإعدادك وإمدادك ، إنه لا يريد منك رزقاً ولا إطعاماً : (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طـه:132)
وإنما يريد منك شيئا واحدا مصلحته عائدة إليك ، يريد منك أن تعبده وحده لا شريك له : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذريات:56-58)
يريد منك أن تكون عبدا له بكل معاني العبودية ، كما أنه هو ربك بكل معاني الربوبية ، يريدك أن تكون عبداً متذللاً وخاضعا له ، ممتثلا لأمره ، مجتنبا لنهيه ، مصدقا بخبره ، لأنك ترى نعمه عليك سابغة تترى ، أفلا تستحي أن تبدل هذه النعم كفراً .
أتصدق أخي الكريم أنه ما عصى عبد ربه إلا بنعمة أنعم بها عليه { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ }إبراهيم 28
فكان مصيرهم كما أخبر رب العالمين {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }إبراهيم29
فهذا عبد قد أعطاه الله الملك وأنعم عليه وجعل العباد تحت يده ، فذكر الملك ونسي مالك الملك ، وذكر النعم ونسي المنعم المتفضل ، فبغى وتجبر ونسب الملك إلى نفسه وأنكر خالقه ورازقه بل وادعى أنه أقوى من ربه الذي في السموات . فأرسل الله إليه رسوله وخليله إبراهيم – عليه السلام – ليذكره قبل فوات الأوان ويبلغه أن للكون إلها خالقا رازقا مستحقا للعبادة وحده لا شريك له ويسجل لنا القرآن الكريم وقائع الحوار الذي دار بينهما فيقول سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } البقرة258
ويأتي عبد آخر ذليل حقير يتجرأ على ربه بل ويحشر الناس ويجمعهم أمامه ويقول بكل بوقاحة وكبر وغطرسة أنه الرب الأعلى .
أرسل الله له رسوله موسى – عليه السلام – ليذكره وينذره وأوصاه بأن يقول له قولا لينا رغبة في هدايته ورأفة به { فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } طه44
اذهب ياموسى إلى فرعون { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى{17} فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى{18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى{19} فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى{20} فَكَذَّبَ وَعَصَى{21} ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى{22} فَحَشَرَ فَنَادَى{23} فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى{24} فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى{25} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى{26}
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ } الزخرف54
فتمادى في غيه وضلاله وكفره ولم يقف عند ادعاء الربوبية بل تعداها إلى مقام آخر وأعلن أنه الإله المعبود وطلب ممن هم في ملكه أن يعبدوه فقال كما أخبر رب العزة والجلال :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } القصص38
بل وبعد ذلك يتجرأ حسالة البشر وهم من غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير ، فتطاولوا على ربهم فقالوا يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا:
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } المائدة64
وحين بسط الله عليهم الرزق ووسع لهم في معيشتهم ذكروا النعمة ونسوا المنعم المتفضل بل وتطاولوا على من أنعم عليهم ورزقهم من فضله واتهموه بالفقر{ لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } آل عمران181
سبحانك ربي ما أحلمك ..... سبحانك ربي ما أصبرك ...... سبحانك ربي ما أعظمك .
بل ونجد من بيننا وفي عصرنا هذا من يسب الدين ويسب الدهر ويسب الرب جل وعلا ولا يستحي ممن رفع السماء بلا عمد ، ونجد من يستحل ما حرم الله من الربا والتكشف والتعري والرشوة والخمر والمخدرات والدخان ومن يتجرأ على ربه فيقول هذا حلالا وهذا حراما بلا علم ، ونسي أن الله وحده هو من يملك التحليل والتحريم { قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } يونس59
وحين حرم رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – على نفسه شيئا مباحا عاتبه ربه في ذلك فقال له { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } التحريم1
بل ونهى المؤمنين أن يتجاوزوا حدودهم فيحرموا على أنفسهم شيئا حلالا طيبا من تلقاء أنفسهم فقال سبحانه وتعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } المائدة87
أيها الأحبة في الله :
لو كان لأحد من الناس فضل عليكم لاستحييتم أن تبارزوه بالمعاصي وتجاهروه بالمخالفة ، فكيف بربكم الذي كل فضل عليكم فهو من فضله ؟ وكل ما يندفع عنكم من سوء فمن رحمته بكم
( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) (النحل:53)
والآن مع جوهر الموضوع : ما حق الله على عباده ؟
روى البخاري ومسلم في الصحيحين واللفظ لمسلم وكذا رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه في السنن :
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ رِدْفَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلاَّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ».
قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.
ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ».
قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.
ثُمَّ سَارَ سَاعَةَ ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ».
قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.
قَالَ « هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ».
قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ « فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ».
ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ « يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ».
قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.
قَالَ « هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ » ؟
قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ « أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ ».
أعظم عبادة - يقوم بها العبد - : أن يوحد ربه فيعتقد موقنا جازما أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه أمر سهل ويسير أن تقولها بلسانك موقنا بها في قلبك مترجما بها أفعالك محركا بها جوارحك : لا إله إلا الله لا إله إلا الله لا إله إلا الله
روى مالك في موطئه والبيهقي والترمذي في السنن عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ».
أخي المسلم الكريم : حق الله عليك أن تعبده وحده ولا تشرك به شيئا ، تعبده كما أمر فتحل حلاله وتحرم حرامه ، وتقف عند حدوده ، وتتأدب مع المعبود فلا تفتري على الله وتعبده بما لم يشرع لك ، ولا تفسر الدين على هواك ، وأن تأخذ العلم من العلماء ودعك من فلسفات وأراء الجهلاء واجعل منهجك كتاب الله وسنة رسوله بفهم العلماء الثقات والفقهاء من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – وإياك ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .